الاعتقال السياسي وتقييد الحقوق الأساسية في ظل حالة الطوارئ
مقدّمة
يسعى المشرّع الدستوري في الدول المختلفة إلى إفراد نصوص دستورية وقوانين خاصة تنظم حالة الطوارئ التي قد تنجم عن الحروب، والكوارث الطبيعية، والأوبئة أو غيرها، وتأتي بهدف اتّخاذ إجراءات تختلف عن تلك المتخذة في الأوضاع الطبيعية، الأمر الذي يؤدي إلى تغيير في الصلاحيات الممنوحة للسلطة التنفيذية في الدولة، لتفرض تقييداً على حقوق المواطنين وحرياتهم بالقدر اللازم والضروري لتحقيق الهدف المعلن في إعلان حالة الطوارئ، وهو ما يتيح للسلطة التنفيذية إمكانية انتهاك حقوق المواطنين الأساسية بحجة حالة الطوارئ المعلنة.
نظّم المشرع الدستوري الفلسطيني أحكام حالة الطوارئ في الباب السابع من القانون الأساسي الفلسطيني، حيث أجاز إعلان حالة الطوارئ عند وجود تهديد للأمن القومي بسبب حرب أو غزو أو عصيان مسلح أو حدوث كارثة طبيعية، وذلك بمرسوم من رئيس السلطة الوطنية لمدة لا تزيد على ثلاثين يوماً، يجوز تمديدها لثلاثين يوماً أخرى شرط موافقة المجلس التشريعي بغالبية ثلثي أعضائه، كما يشترط أن يتضمن مرسوم إعلان حالة الطوارئ الهدف والمنطقة التي يشملها، إضافة إلى الفترة الزمنية، مع إعطاء المجلس التشريعي الحق في مراجعة الإجراءات والتدابير التي اتُخذت في حالة الطوارئ في أول اجتماع يعقده عقب إعلانها.
انطلاقاً من كون حالة الطوارئ حالة خاصة تعمل على تقييد حقوق المواطنين وحرياتهم، ذهب المشرّع الدستوري الفلسطيني إلى فرض رقابة من قبل المجلس التشريعي الذي يمثّل الشعب على كل أو بعض الإجراءات التي اتخذت في حالة الطوارئ، وإجراء الاستجواب اللازم للسلطة التنفيذية، وذلك في إطار ضمان التزام السلطة التنفيذية بعدم انتهاك حقوق المواطنين أثناء حالة الطوارئ.
في ظل غياب المجلس التسريعي الفلسطيني، وغياب الرقابة التي كان ليفرضها على الإجراءات والتدابير التي اتُّخذت في حالة الطوارئ، تتفرّد السلطة التنفيذية -من خلال المكلفين بإنفاذ القانون )الشرطة، والأجهزة الأمنية)- في فرض إجراءات تقيّد من حقوق المواطنين، وأبرزها الاستمرار في سياسة الاعتقال السياسي بحق معارضيها، في انتهاك وتقييد واضح للحق في حرية الرأي والتعبير، مع أخذ حالة الطوارئ كذريعة لتقييد هذا الحق وغيره من الحقوق.
مع تصاعد الأزمة الصحية العالمية نتيجة لتفشي فايروس كورونا، اتخذت العديدُ من الدول إجراءات للحد من انتشار الفايروس، تمثلت بالإفراج عن بعض المعتقلين لديها، وذلك لتجنب اتساع رقعة انتشار الفايروس في مراكز التوقيف والاحتجاز. وعلى الرغم من هذا التوجه العالمي، فإن السلطة الفلسطينية ما زالت تعتقل معارضيها تحت حججٍ مختلفة، وذلك لممارستهم الحق في حرية الرأي والتعبير، وتكوين الجمعيات والانضمام إليها.
ينص العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي انضمت إليه دولة فلسطين في العام 2014، على أنه يجوز للدولة في حالات الطوارئ الاستثنائية أن تتخذ تدابير لا تتقيد بالالتزامات المترتبة عليها في العهد، لكنه اشترط، أيضاً، عدم جواز تقييد بعض الحقوق المنصوص عليها كالحق في الحياة، وحظر إخضاع أي شخص للتعذيب أو المعاملة القاسية واللاإنسانية.[1] وعلى الرغم من ذلك، فإن هناك شهادات لمعتقلين تفيد بتعرضهم للتعذيب والمعاملة اللاإنسانية في مقرات الأجهزة الأمنية الفلسطينية.
منذ بدأ تفشي فايروس كورونا في فلسطين، خاطبت مؤسسة الضمير جهات الاختصاص في وزارتي الداخلية والعدل مطالِبة بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين لدى الأجهزة الأمنية وعلى ذمة المحافظين، المحتجزين على خلفية تهم تتعلق بالانتماء السياسي، والرأي، وتشكيل الجمعيات والانضمام إليها، وذلك للحد من انتشار الفايروس، وحمايةً لحق المعتقلين في الصحة. وبالمقابل، استمرت الاعتقالات بوتيرة طبيعية دون الأخذ بعين الاعتبار الظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد، حيث اعتُقل منذ بداية شهر آذار حتى أيار ما يقارب 80 شخصاً، واستُدعي العشرات على خلفية نشر منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" تنتقد سياسات الحكومة الفلسطينية، إضافة إلى اعتقال صحافي، وما يقارب 10 من طلبة الجامعات في انتهاك لحقهم بحرية الرأي والتعبير والانضمام للجمعيات والعمل النقابي.
اعتقالات تعسفية تطال المعارضين
إن حملة الاعتقالات الأخيرة التي نفذتها الأجهزة الأمنية الفلسطينية في ظل تفشي فايروس كورونا، طالت طلبة الجامعات ومتطوعين ونشطاء مجتمعيين، جرى التحقيق معهم على خلفية توزيع معونات للأُسَر الميسورة، إضافة إلى معتقلين على خلفية كتابة منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي.
أفاد الطالب (ح. خ) لمؤسسة الضمير بأنه اعتُقل بعد أن سلّم جهاز الأمن الوقائي تبليغاً لوالديه بضرورة حضوره لمقر الأمن الوقائي في اليوم التالي، وذلك بعد أن حضرت قوة إلى منزله لاعتقاله ولم تجده. جرى التحقيق معه حول نشاطه النقابي في الجامعة وعمله الصحافي، حيث إنه يدرس الإعلام. ووجهت له لاحقاً تهمة إثارة النعرات الطائفية، وأُفرج عنه بكفالة لاستكمال محاكمته من الخارج.
أما المعتقل (م. س) الذي اعتُقل بعد اقتحام منزله بعد منتصف الليل من قبل قوة مشتركة من الأجهزة الأمنية، فقد جرى التحقيق معه من قبل جهاز الأمن الوقائي حول منشور على صفحته الشخصية على "فيسبوك"، يتناول موضوع فساد السلطات، وتعرض أثناء فترة اعتقاله للصراخ والشتم والتهديد، إضافة إلى أنه تعرض للشبح من خلال إجباره على الوقوف ورفع يديه للأعلى وفتح قدميه لأقصى حد، كما تعرض للضرب على الوجه والرأس. وفي جلسة المحكمة، وُجهت له تهمة حيازة سلاح على الرغم من أنه جرى التحقيق معه على كتابة منشور. إن اعتقال (م. س) أدى إلى فصله من عمله بادّعاء أنه يشكّل خطراً على العمل.
كما أفاد المعتقل (ف. ي) بأنه اعتُقل من منزله الساعة 2:30 ليلاً، ونُقل إلى مقر الأمن الوقائي، حيث تعرض للتحقيق على خلفية الاحتجاجات والانتقادات على عمل البلدية، إضافة إلى مشاركته في حملة "الفجر العظيم". وفي إطار التهديد الذي تعرض له، طُلب منه وقف نشاطه في الحملة والابتعاد عن المناكفات فيما يتعلق بالبلدية. أُفرج عنه بعد يومين من الاحتجاز التعسفي.
وفي ظل الوضع الاقتصادي المتردّي الذي نتج عن توقف عجلة الاقتصاد بعد تفشي فايروس كورونا، وبدلاً من أن توفّر الحكومة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية معونات ومساعدات للأُسَر الميسورة كافة، وتضمن حياة كريمة للمواطنين بما يكرّس المساواة بين أبناء الشعب، فإنها تقوم بملاحقة النشطاء لقيامهم بتوزيع المعونات.
أفاد المعتقل (ا. ن) لمؤسسة الضمير بأنه اعتُقل الساعة 2:00 ليلاً من منزله بعد أن حضرت قوّة من الأجهزة الأمنية، وقامت بتفتيش منزله تفتيشاً دقيقاً استمر لما يزيد على نصف ساعة. نقلت القوة المعتقل إلى مقر الأمن الوقائي في طولكرم، وفي التحقيق، جرى سؤاله حول الطرود التي يقوم بتوزيعها، ومن أين حصل عليها، مع العلم أن هذه الطرود تُوزّع على الأُسَر الميسورة حيث يقدّمها فاعلو الخير. بعد انتهاء الجلسة الأولى التي استمرت دقائق، نُقل إلى الزنزانة ولم يتم التحقيق معه نهائياً لمدة ثلاثة أيام، ومع ذلك مددت المحكمة توقيفه لمدة 7 أيام، ووجهت له تهمة جمع وتلقي أموال من جمعيات غير مشروعة. أُفرج عنه بعد 10 أيام من الاعتقال لعدم كفاية الأدلة.
أما المعتقل (ف. ج) الذي يعمل مديراً لجمعية خيرية مرخصة من وزارة التنمية الاجتماعية، فقد اعتقل بعد استدعائه لمقر الأمن الوقائي، وجاء استدعاؤه بعد أن أوقفت قوّة من الأمن الوقائي في الخليل سيارة تابعة للجمعية التي يرأسها تقوم بتوزيع الطرود والمساعدات وقامت بمصادرة الطرود وحجز هويات الشبان. جرى التحقيق مع المعتقل على جمع وتلقي أموال من جمعيات غير مشروعة، واحتُجز لمدة 7 أيام، تعرض خلالها للضغط والتهديد باعتقال الزوجة، وبعد الإفراج عنه بكفالة وشرط العودة للمقابلة في مقر الأمن الوقائي في اليوم التالي، توجه لمقر الأمن الوقائي ليتم تأجيل مقابلته لليوم الذي يليه، وهكذا استمر الحال لمدة 4 أيام.
إن قيام الأجهزة الأمنية باعتقال المواطنين على خلفية نشاطهم الطلابي والمجتمعي والتطوعي، وتوزيعهم الطرود والمعونات للأُسَر الميسورة، وعلى خلفية كتابة منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي، ينتهك حقوق الأفراد الأساسية المكفولة في الاتفاقيات الدولية التي انضمت إليها فلسطين، ويُظهر استمرار ملاحقة النشطاء الذين ينتمون إلى أحزاب سياسية معارضة للسلطة، واحتجازهم لفترات، وتوجيه تهم شكليّة للتغطية على السبب الحقيقي للاعتقال، بما ينتهك حق الأفراد في الانتماء السياسي وحرية الرأي والتعبير، ويستوجب الكفّ فوراً عن هذه الممارسات التي تعيق بوادر إنهاء الانقسام، وتُظهر شكليّة الانضمام إلى الاتفاقيات الدولية دون وجود نية حقيقية لاحترامها من قبل السلطة التنفيذية.
الموازنة بين النظام العام وحقوق الأفراد الأساسية
إن حالة الطوارئ باعتبارها حالة استثنائية؛ تجيز تقييد بعض الحقوق حفاظاً على النظام والأمن العام. ووفقاً للمفهوم الحديث للحقوق؛ فإنها تخضع لامتحان التوازن والتناسب على عكس المفهوم القديم أن بعض الحقوق لها قيمة معيارية بحد ذاتها، وبالتالي بالإمكان تقييد بعض الحقوق والحريات الأساسية في بعض الحالات التي تكون لخدمة الصالح العام.[2] إن مفهومي التوازن والتناسب يشيران إلى أنه يتوجب على الجهات المختصة بإقرار الإجراءات الخاصة بحالة الطوارئ والمكلفين بإنفاذ القانون، مراعاة إجراء التوازن بين حق المواطنين في الحركة والتنقل أو الانضمام إلى الجمعيات، وبين الحفاظ على الأمن والنظام العام، وذلك حمايةً لحقوق المواطنين وضمان التزامهم بالإجراءات المُقَرّة.
إن الالتزام المتبادل من قبل المواطنين والمكلفين بإنفاذ القانون في إجراءات الطوارئ، يستدعي إخضاع كل من يخالف التعليمات للمحاسبة، وذلك وفقاً للقانون، مع ضمان توفير الضمانات الأساسية لحقوق الإنسان أثناء الاحتجاز والمحاكمة. إن الواجب المفروض على الأجهزة الأمنية المكلفة بإنفاذ القانون للحفاظ على الأمن والنظام العام في حالة الطوارئ، لا يجوز استغلاله بما يخالف الغاية من فرض حالة الطوارئ، ولا يجوز أن يتم تقييد حقوق أساسية للمواطنين لا تمس بالأمن والنظام العام كتوزيع المعونات، أو ممارسة الحق في حرية الرأي والتعبير، حيث إن الاعتقالات التي جرت على هذه الخلفية هي اعتقالات غير مشروعة وتعسفية هدفها سياسي لقمع كل معارض للسلطة تحت مظلة حالة الطوارئ المفروضة، وهي مخالفة للاتفاقيات والمواثيق التي انضمت إليها فلسطين التي تكفل، بشكل أساسي، حق الأفراد في الحرية، وعدم التعرض للاحتجاز التعسفي، والحق في حرية الرأي والتعبير والانضمام إلى الجمعيات.
[1] المادة (4) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
[2] Kai Moller, The Global model of constitutional rights (Oxford: Oxford University Press, 2012), 12.