يقبع في سجون الاحتلال أكثر من 6500 أسيراً ومعتقلاً فلسطينياً، يحرم غالبيتهم من أبسط حقوقهم الأساسية، وأحد أهم هذه الحقوق المسلوبة هو حقهم بالبقاء على تواصل مع عائلاتهم من خلال الزيارات العائلية المنتظمة لهم في السجون. لا يتسبب الاعتقال بالألم والمعاناة للأسير الذي حرم من حريته فقط، بل أيضاً لأفراد عائلته خارج السجن، فهناك العديد من الفلسطينيين الذين اضطروا للعيش من دون أم أو أب أو أخ أو أخت نتيجة الاعتقال، فلسياسة الاعتقال الجماعي التي تمارسها دولة الاحتلال أثر مروع على المجتمع الفلسطيني بشكل عام وعلى أهالي الأسرى بشكل خاص.
غالباً ما تقوم سلطات الاحتلال بإلغاء الزيارات العائلية أو تحديد مدتها بشكل تعسفي، إضافة إلى قيامها بحرمان العديد من الأسرى الفلسطينيين كلياً من الزيارات العائلية، الأمر الذي يتناقض تماماً مع مسؤوليات وواجبات دولة الاحتلال بحسب القانون الدولي، حيث يعتبر حق الزيارة العائلية أحد الحقوق التي كفلها القانون الدولي، وهو حق منصوص عليه بوضوح في اتفاقية جنيف الرابعة، وفي القواعد النموذجية الدنيا لمعاملة الأسرى، ومجموعة المبادئ المتعلقة بحماية جميع الأشخاص الذين يتعرضون لأي شكل من أشكال الاحتجاز أو السجن، والقواعد التي تنظم بحسبها السجون الأوروبية، بالإضافة إلى اتفاقية حقوق الطفل.
تقوم دولة الاحتلال باحتجاز الأسرى الفلسطينيين من الضفة الغربية وقطاع غزة في سجون ومعتقلات خارج الأرض المحتلة عام 1967، وهو ما يشكل انتهاكاً للمادة رقم 76 من اتفاقية جنيف الرابعة 1949، والتي منعت بشكل واضح "النقل الفردي أو الجماعي بالإضافة إلى الترحيل للأفراد من الأراضي المحتلة إلى أراضي القوة المحتلة". كما ويخلق ذلك عقبات كبيرة أمام أهالي الأسرى والمعتقلين الذين يرغبون في زيارة أبنائهم، حيث يضطرون لتقديم طلب للحصول على تصاريح من السلطات الإسرائيلية لتمكنهم من الدخول إلى الأراضي المحتلة 1948 لزيارة أقاربهم في سجون الاحتلال، وفي أغلب الأحيان يكون الحصول على تصريح في غاية الصعوبة، وأحياناً أخرى يكون مستحيلاً، والمبرر الوحيد الذي تستخدمه سلطات الاحتلال لرفض التصريح هو "الأسباب الأمنية" دون تحديد أو تفسير ما الذي تعنيه بذلك.
وفي حال السماح بالزيارة، تقوم قوات مصلحة السجون الإسرائيلية بفرض العديد من القيود على الأسرى وذويهم، حيث تسمح الزيارات للأقارب من الدرجة الأولى فقط، ويمنع أفراد العائلة الذكور الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و35 عاماً من الزيارة بشكل دائم، بالإضافة إلى أن التواصل بين الأسير وعائلته أثناء الزيارة يكون عبر الهاتف من وراء حاجز زجاجي، لا يسمح بأي تواصل جسدي.
أما فيما يخص أسرى قطاع غزة، فإن الوضع الحالي أليم، حيث كان يسمح بالزيارات العائلية لهم قبل العام 2007، ولكن بعد آسر الجندي الإسرائيلي "جلعاد شاليط"، تم حرمان أسرى القطاع من التواصل العائلي بحجة "أسباب أمنية غير محددة"، وهذا الإجراء هو دليل على ممارسة دولة الاحتلال لسياسة العقاب الجماعي ضد سكان القطاع، وفي التاسع من كانون الأول عام 2009، قامت المحكمة العليا الإسرائيلية برفض الاستئناف الذي قدم لنزع شرعية هذه السياسة.
وخلال الإضراب الجماعي عن الطعام في شهر نيسان من عام 2012، كان أحد المطالب الأساسية للأسرى هو إعادة السماح بالزيارات العائلية لأسرى غزة، ومع أن قوات الاحتلال وافقت على إعادة الزيارات عند انتهاء الإضراب، فإنه ومنذ حزيران 2014، تم السماح لأسرى قطاع غزة بالزيارة العائلية مرة واحدة كل 60 يوماً، وليس كل أسبوعين مثل أسرى الضفة الغربية والقدس والأرض المحتلة عام 1948.
خلال العدوان الحربي الأخير الذي شنته قوات الاحتلال على غزة، والذي بدأ في تموز 2014 حرم أسرى قطاع غزة من الزيارات العائلية واستمر منع الزيارات حتى شهر تشرين الأول 2014، كما طال المنع أيضاً أسرى الضفة الغربية المنتمين لحركتي حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية الذين يشكلون أكثر من نصف مجموع الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال البالغ عددهم اليوم حوالي 6500، وحديثاً تم استئناف الزيارات لهؤلاء الأسرى، إلا أنها تتم مرة كل شهرين بدلاً من كل أسبوعين خلافاً للعديد من الاتفاقيات الدولية.
النهج الذي تسير عليه الزيارات العائلية
كانت الزيارات العائلية للأسرى والمعتقلين الفلسطينيين في سجون الاحتلال تتم بشكل دوري ودون معيقات حتى اندلاع انتفاضة الأقصى في أيلول عام 2000، إلا أنه بعد اقتحام قوات الاحتلال للضفة الغربية وبسبب نصب مئات الحواجز العسكرية، فإن كل العائلات في الأرضي المحتلة والتي ترغب بزيارة قريب لها في سجون الاحتلال –عدا حاملي هوية القدس- اضطرت إلى التقدم للحصول على تصاريح للدخول إلى دولة الاحتلال، مما زاد من صعوبة الزيارات.
يحتاج تقديم التصريح الى فترة طويلة ومن الممكن أن تستمر من شهر إلى ثلاثة أشهر، أما التصريح نفسه فهو صالح لسنة واحدة فقط، ويتم تقديم الطلب عبر اللجنة الدولية للصليب الأحمر ومن ثم يتم تحويلها إلى سلطات الاحتلال، وهذه الزيارات محصورة لأقارب السجين من الدرجة الأولى مثل الأطفال، الأزواج، الوالدان، الاخوة والأجداد فقط، وهكذا يتم عزل الأسرى والمعتقلين عن دوائرهم الاجتماعية. وكما ذكرنا سابقاً فإن الرجال ما بين سن السادسة عشر والخامسة والثلاثون يمنعون من الزيارة، وفي حالات نادرة يحصلون على تصريح زيارة ولمرة واحدة فقط في السنة، بحيث يحصل من لديه أخ في سجون الاحتلال على تصريح لمرة واحدة في السنة، ومرتين في السنة لمن لديه أب في سجون الاحتلال.
ولكن عملياً فإن المئات من العائلات الفلسطينية لا يستطيعون الحصول على تصاريح بحجة "الأسباب أمنية"، دون توضيح سبب رفض تقديم التصريح إلا باستخدام هذا الجملة: "ممنوع الدخول إلى إسرائيل لأسباب أمنية".
أما عندما يتم السماح بالزيارات العائلية، فإنها تتم مرة كل أسبوعين وتستمر لخمسة وأربعون دقيقة فقط، وفي داخل غرفة الزيارات يوجد لوح زجاجي يفصل بين الأسير والزائر، حيث يتم التواصل فيها بينهم عبر الهاتف أو عبر بضعة ثقوب في اللوح الزجاجي، ويتم السماح بالدخول لثلاثة بالغين وقاصرين في نفس الوقت لزيارة السجين ذاته.
دراسة حالة: عائلة الأسير أحمد سعدات
اعتقلت قوات الاحتلال الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أحمد سعادات (61 عاماً) في الرابع عشر من اذار من عام 2006، فقد تم اعتقاله من سجن للسلطة الفلسطينية في أريحا، وبعد عامين من اعتقاله حكم عليه بالسجن لمدة ثلاثين عاماً، أحمد سعدات متزوج من عبلة الريماوي (58 عاماً) ولديهم أربع أولاد، غسان(32 عاماً)، إباء(29 عاماً)، صمود(عاماً 28) ويسار(23 عاماً).
يسمح لشخصين فقط من عائلة سعدات بزيارته وهما: زوجته عبلة؛ وأبنه غسان كونهما يحملان هوية القدس، أما باقي أفراد العائلة فهم من حملة هوية الضفة الغربية، مما يضطرهم للتقدم للحصول على تصريح لدخول المناطق المحتلة عام 1948 لزيارة والدهم في السجن. ولكن هذا لا يعني أن حملة هوية القدس يستطيعون الدخول تلقائياً لزيارة الأسرى، حيث أن ذلك يعتمد على قرار سلطات الاحتلال، فخلال العام 2008، قامت قوات مصلحة السجون الإسرائيلية بمنع السيدة عبلة من زيارة زوجها في السجن. وتكرر في شهر آذار من العام 2014، وعندما وصلت إلى باب السجن، أخبرها المسئولون بأنه غير مسموح لها الدخول لزيارة زوجها، بالإضافة إلى ذلك، حظرت قوات مصلحة السجون الزيارات العائلية لأحمد سعدات لمدة ثلاثة أشهر بدءاً من الرابع عشر من أيلول من العام 2014.
أما بالنسبة لإباء ويسار "حاملي هوية الضفة الغربية" فقد استطاعوا زيارة والدهم مرة واحدة فقط منذ اعتقاله في العام 2006، وتم رفض جميع محاولاتهم الأخرى لزيارة والدهم بحجة الأسباب الأمنية دون توضيحها. أما ابنته صمود فلم تستطع زيارة والدها في السجن ولو مرة واحدة وذلك أيضاً لأسباب أمنية غير واضحة.
في شهر آذار من العام 2008، أقدمت قوات مصلحة السجون الإسرائيلية على عزل أحمد سعدات في زنازين العزل الانفرادي لمدة ستة أشهر جددت تباعاً لمدة ثلاث سنوات، وطوال تلك السنوات منع من تلقي الزيارات العائلية.
وعندما يتم السماح بالزيارة العائلية للأسرى، فإن الإجراءات الإسرائيلية التي تفرض على الزيارات تكون صعبة جداً، فرحلة الزيارة لأفراد العائلة حاملي هوية الضفة الغربية تبدأ عند الساعة 6:00 صباحاً حيث يستقلون باصات تابعة للجنة الصليب الأحمر الدولية، ومن ثم يتجهون للأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، وقبل وصولهم يضطرون للمرور بحاجز بيت سيرا وهناك يضطرون للبقاء لمدة تقارب الساعتين يتعرضون خلالها لتفتيشات جسدية والكترونية، وحين وصولهم للسجن فإنهم يتعرضون لتفتيشات جسدية والكترونية مرة أخرى من قبل حراس السجن، ومن الشائع أن تضطر العائلات للانتظار لمدة خمس ساعات قبل أن تستطيع دخول السجن، وبعد دخولهم السجن يضطرون للانتظار لمدة 45 دقيقة في غرفة الانتظار الخالية من ماء للشرب والمرحاض، أما عندما تبدأ الزيارة فعلى أفراد العائلة أن تتواصل مع الأسير/ المعتقل عبر زجاج فاصل وباستخدام هاتف، وعادة ما تكون هذه الهواتف متلفة، مما يجعل جودة الصوت المنقول سيئة، وأيضاً ليس من المستغرب أن يقوم الحراس بتأخير دخول الأسير إلى غرفة الزيارة ، مما يؤدي إلى تقليل وقت الزيارة .
حرمان السجناء من الزيارات العائلية كعقاب جماعي: وأثر أسر النساء الفلسطينيات على عائلاتهم
يؤثر اعتقال النساء الفلسطينيات بشكل كبير عليهن، ويمثل اعتقالهن عقاب جماعي لكل أفراد عائلتهم، فعلى سبيل المثال تمثل حالة الأسيرة قاهرة سعيد السعدي والتي تم اعتقالها من قبل قوات الاحتلال في الثامن من شهر أيار من العام 2002، إذ تعرض أولاد السيدة قاهرة السعدي الأربعة للصدمة نتيجة مشاهدتهم لعملية اعتقال والدتهم والاعتداء من قبل قوات الاحتلال. ويترك بطش وتنكيل الجنود بالمعتقل أو أفراد عائلته أثناء عملية المداهمة والاعتقال أثراً كبيراً على نفسية الأطفال الذين يشاهدونه.
بعد اعتقالها نقلت قوات الاحتلال السيدة قاهرة السعدي إلى مركز تحقيق المسكوبية في القدس، وهناك تعرضت للتعذيب النفسي والجسدي. وأثناء التحقيق معها أبلغتها المخابرات الإسرائيلية أنها اعتقلت ابنتيها اللتين تناهزان 10 و16 من العمر، وهددوها باغتصابهن إذا لم تستجب لمطالبهم.
وبعد انتهاء التحقيق ونقلها من مركز التحقيق إلى السجن منعت قوات مصلحة السجون السيدة السعدي من حقها في الزيارات العائلية واستمر ذلك طوال عامين بعد اعتقالها، وتم رفض تصريح الزيارة لابنتها الكبرى مراراً وتكراراً بذريعة "الأسباب الأمنية". أما عندما استطاع أولاد قاهرة زيارتها فلم يمكثوا أكثر من نصف ساعة امام والدتهم، رغم أن الطريق من وإلى السجن استغرقتهم قرابة عشر ساعات، وذلك بسبب التأخير الناتج عن عمليات التفتيش الجسدي وتفتيش الأمتعة المتكررة، وخلال الزيارة فلقد تم فصل الأولاد عن والدتهم عبر لوح زجاجي واضطروا للتحدث مع والدتهم باستخدام الهاتف.
أوضحت الدراسات أن منع الزيارات العائلية للأسيرات يؤثر على صحتهن النفسية والجسدية وكثيراً ما يؤدي إلى حالات من القلق والاكتئاب وإلى تفاقم الإحساس بالوحدة لدى الأسيرة وأطفالها وأفراد عائلتها، فرغم أن الزيارات مسموحة الآن مرتين في الشهر نظرياً، إلا أن السياسات التي تفرضها قوات الاحتلال وقوات مصلحة سجونها تتسبب في كثير من الأحيان من حرمان المئات من عائلات الأسرى من حقهم في الزيارة.
القانون الدولي للزيارات العائلية
تقوم دولة الاحتلال بخرق مستمر للقانون الدولي عبر حرمانها للأسرى والمعتقلين الفلسطينيين من التمتع بحقهم في الزيارات العائلية، حيث نجد أن حق الأسير في الحصول على زيارات عائلية هو حق كفلته المواثيق والاتفاقيات الدولية، ولقد تم التحديد بوضوح في المادة 116 من اتفاقية جنيف الرابع (1949)، أنه يحق لأسير الحرب الحصول على زيارات عائلية بشكل متكرر "وخلال فترات منتظمة"، كما وتوضح قواعد الأمم المتحدة النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء (1977) في المادتين 37 و92، أنه يحق للأسير أن يبقى على اتصال مع عائلته أو أصدقائه ذوي السمعة الجيدة خلال المراسلات أو من خلال استقباله للزيارات، كما شددت مجموعة المبادئ المتعلقة بحماية جميع الأشخاص الذين يتعرضون لأي شكل من أشكال الاحتجاز أو السجن (1988)، على حق الأسير في الحصول على زيارات عائلية، والتي وضحت بأنه يحق للسجين أو المعتقل الحصول على زيارات عائلية تحت "ظروف وقيود معقولة".
وتشدد قواعد القانون الدولي عامة على حقوق القاصرين في الحصول على زيارات عائلية كما ورد في قواعد الأمم المتحدة لحماية الأحداث المحرومين من حريتهم (1990)، حيث تنص المادتين 59 و60 بوضوح حق القاصرين بالتواصل مع "المجتمع الأوسع" وبالحصول على زيارات عائلية بشكل منتظم ومتكرر لمرة واحدة في الأسبوع أو على الأقل مرة واحدة في الشهر.
دراسة: عائلة الصياد
"لا تبكي فأنا أحبكِ وأنا موجود دائماً بجانبكِ"
اعتقلت السيدة انتصار الصياد (38 عاماً) في 22 تشرين الثاني من العام 2012، مما أدى إلى فصلها عن أولادها الأربعة، وقد تسبب ذلك في معاناة كبيرة لها ولأولادها، احتجزت انتصار وتنقلت بين عدة سجون، ففي البداية تم احتجازها في مركز تحقيق المسكوبية في القدس لمدة ثلاثة عشر يوماً، ومن ثم تم نقلها إلى سجن نيفي ترتسيا وهو سجن للنساء في الرملة، حيث بقيت هناك مدة شهر، وأخيراً تم نقلها إلى سجن هشارون بتاريخ 20 كانون الثاني من العام 2013، كانت عائلة انتصار تراها في المحاكم فقط قبل صدور حكمها، وكانت اول زيارة لها بعد مرور ثلاثة أشهر من اعتقالها.
واجهت عائلة انتصار صعوبات كثيرة عند زيارة السجن، فقد تم السماح لأولادها بالزيارة مرتين في الشهر ولمدة 45 دقيقة فقط، وفقاً لما قاله ابنها الأصغر إبراهيم فإن "القيام بالزيارة متعب ومرهق للغاية بسبب طول المسافة التي يضطرون إلى قطعها". تصر ابنتها دانيا على زيارة والدتها رغماً عن دوار الحركة الذي تعاني منه في الطريق إلى السجن، عند وصولهم إلى السجن فإن أولادها يضطرون للانتظار فترة طويلة جداً حتى يسمح لهم برؤية والدتهم، لأن زيارات النساء تتم بعد زيارات الرجال والقاصرين، يتم تفتيش الأولاد مرتين قبل أن يتم السماح لهم بالدخول لغرفة الزيارة، ولكن مع كل ذلك فإن الأطفال يشعرون بأن أصعب جزء من الزيارة هو عدم السماح لهم بأي اتصال جسدي مع والدتهم، وبدلاً عن ذلك فإنهم مضطرون للتواصل عبر فاصل زجاجي.
تقول أبنة انتصار ملاك: "لا أستطيع أن أحضن أو ألمس والدتي وذلك بسبب الفاصل الزجاجي فيما بيننا". أما بالنسبة لانتصار فرؤية أبناءها عبر الزجاج الفاصل صعبة للغاية، حين تتمنى أن تحضنهم بين أيديها، تحاول أن تبقى قوية أمام أطفالها، إلا أنها تبكي بعد كل زيارة، وتفكر كثيراً وتخطط لكل ما ستقوله لهم أثناء الزيارة، إلا أنه حين يأتي وقت الزيارة تنسى كل شيء. يتذكر ابنها إبراهيم (12 عاماً) كيف كانت شاحبة وبدأت بالبكاء عندما رأتهم في أول زيارة، في محاولة للتخفيف عن والدته قال إبراهيم لها: "لا تبكي فأنا أحبكِ وأنا موجود دائماً بجانبكِ". غير ذلك فإن انتصار وأولادها يجدون بأنه من الصعب تبادل الرسائل، حيث أنها تصل إما متأخرة أو لا تصل أبداً.
لقد كان لاعتقال انتصار أثر عطافي كبير على أطفالها وخاصة على متسوى دراستهم، حيث أن أطفالها كانوا دائمي الاشتياق لوجودها حولهم، فمثلاً تألمت ابنة انتصار ملاك كثيراً في يوم تخرجها لعدم تواجد والدتها حولها، خصوصاً أن جميع زميلاتها كنا يحتفلن مع أمهاتهم بمناسبة التخرج. لم يتأثر أبناء انتصار عاطفياً فقد بل أكاديمياً أيضاً، فمثلاً اضطر والدهم لأن يوظف مدرس خصوصي لإبراهيم ليساعده في الدراسة، وبما أن الاثنين هو اليوم الوحيد المسموح لهم فيه بزيارة والدتهم، كانوا يضطرون للغياب عن المدرسة كل أسبوعين للذهاب لرؤية والدتهم، ولكن وبالرغم من كل ذلك، نجد أن أولاد انتصار متفائلين وفخورين بوالدتهم، وينتظرون أن يتم الإفراج عنها بفارغ الصبر. وكانت سلطات الاحتلال قد أفرجت عن انتصار وعادت لعائلتها في تاريخ 9 حزيران 2014 بعد أن أمضت في السجن أكثر من 18 شهراً.
وكشفت المقابلات التي أجرتها مؤسسة الضمير والمركز الفلسطيني للإرشاد مع الأسيرات السابقات، أن الأسيرات السابقات بحاجة ماسة إلى الدعم النفسي، وخاصة في الأسابيع والأشهر الأولى بعد الإفراج عنهن، حيث يفاقم نقص الخدمات وآليات الدعم في السجن من مشاعر الخيبة والعزلة لدى الأسيرات، والتي غالباً ما تؤدي إلى زيادة المخاوف الصحية والعقلية للأسيرات خلال وبعد الاعتقال.
ففي ورشة عمل للمركز الفلسطيني للإرشاد في رام الله في 16 آب من عام 2008 لتقييم السجينات المحررات، طالبت العديد من المشاركات دعماً اجتماعياً ونفسياً، وأكدت الأسيرات الفلسطينيات المحررات أنه يجب تقديم برنامج قبل وبعد الإفراج عنهن، وأن يتم ضم عائلاتهم بمخطط الدعم.
تقوم وزارة الأسرى والمحررين بتفعيل بعض برامج إعادة تأهيل المعتقلين السابقين، والتي تتضمن المساعدة التعليمية والتدريب المهني ودعم الأجور، وقروض التوظيف الذاتي، وقروض للمشاريع والتأمين الصحي، إلا أنه وحتى الآن، لا يوجد في الوزارة برامج طويلة الأمد ومحدد بين الجنسين لإعادة تأهيل للأسرى. في حين تم إنشاء وحدة خاصة للتعامل مع الشباب والأطفال المعتقلين، ولكن لم يتم بعد إنشاء أي منشأة من هذا القبيل لدعم الأسيرات والمعتقلات، فعلى الرغم من أن القسم القانوني في وحدة الشباب والأطفال التي أنشأتها الوزارة توفر المشورة القانونية للنساء السجينات جنباً إلى جنب مع الأطفال المحتجزين، إلا أن الدعم والاهتمام يتوقف بمجرد الإفراج عن الأسيرة.
خلاصة:
إن لسياسة الاعتقال الجماعي التي انتهجتها دولة الاحتلال أثر مدمر على المجتمع الفلسطيني، فقد قامت دولة الاحتلال باعتقال ما يقارب ال750.000 فلسطيني منذ العام 1967، فمن الصعب جداً إيجاد عائلة فلسطينية لم يعتقل أحد أفرادها، وبالتالي يمكن اعتبار هذا الأمر من أهم الأسباب التي جعلت قضية الأسرى محور أساسي في وجدان كل فلسطيني.
وفقاً للقانون الدولي يحق لجميع المعتقلين الحصول على زيارات عائلية، إلا أن دولة الاحتلال تستمر بمنع هذه الزيارات بشكل ممنهج كإجراء عقابي، فبعض الأسرى الفلسطينيين لم يروا عائلاتهم منذ سنوات، وتقوم دولة الاحتلال باحتجاز الغالبية العظمى من المعتقلين السياسيين الفلسطينيين في أراضي 1948 مما يشكل انتهاكاً فاضحاً للقانون الدولي، ولذلك يتوجب على الفلسطينيين المتواجدين في أراضي الضفة الغربية تقديم طلب للحصول على تصريح دخول الى الاراضي المحتلة عام 1948 من أجل زيارة أقاربهم في السجن، إلا أن العديد من هذه التصاريح تمنع تحت مسمى "الدواعي الأمنية" ودونما الكشف عن ماهية هذه الدواعي من قبل الاحتلال.
كما وتقوم دولة الاحتلال باستخدام منع الزيارات العائلية كإجراء عقابي ضد الأسرى، ففي إضراب المعتقلين الإداريين منتصف العام 2014، قامت قوات مصلحة السجون الإسرائيلية بمعاقبة المعتقلين الذين قادوا الإضراب وحرمتهم من حقهم في استقبال الزيارات العائلية لمدة ستة أشهر والذين أضربوا عن الطعام لمدة أربعة أشهر، وجاء هذا العقاب ضمن حزمة من الإجراءات العقابية التي اتخذتها قوات مصلحة السجون بحق المضربين عن الطعام.
وتبقى القصص الأكثر ألماً عن الاعتقال وأثره على الأسر الفلسطينية لم تروى بعد، فالاعتقال لون كل الذكريات التي يفترض أن تكون جميلة لعائلات الأسرى بالحزن والأسى، فأعياد الميلاد والأعراس والمناسبات كلها ذكريات ناقصة دون إطلاق سراح الأسرى وإعادة شملهم الى عائلاتهم.