بدأت عمليّات الاعتقال من داخل قطاع غزّة مع بداية العدوان البريّ على القطاع، حيث تمّ اعتقال أعداد كبيرة جدّاً من المدنيّين والنساء والأطفال وكبار السنّ، وغالبيّة هذه الاعتقالات كانت من المناطق التي أطلقت عليها دولة الاحتلال اسم "الممرّات الآمنة"، أو من المباني التي تتمتّع في حصانة دوليّة أثناء النزاعات، مثل: الجامعات، والمدارس، والمستشفيات، كذلك اعتقل أعداد كبيرة من المدنيّين من داخل منازلهم بعد مداهمة قوّات الاحتلال لها. وجرى نقل جميع هؤلاء المعتقلين إلى مناطق مجهولة في غلاف قطاع غزّة، أو نقلهم إلى معسكر "سديه تيمان"، الذي استمرّ مكاناً مجهولاً حتّى تمّ الإعلان عنه في تاريخ 22/2/2024.
بعد تنفيذ عمليّات الاعتقال كان يتمّ نقل الأسرى في الباصات أو الجيبّات العسكريّة إلى المعسكرات التي من ضمنها معسكر "سديه تيمان"، لتبدأ عمليّات الاحتجاز غير القانونيّة التي شرعت بها قوّات الاحتلال منذ اليوم الأوّل من بدء جريمة الإبادة الجماعيّة على قطاع غزّة. وفي البداية لم يتمّ الإفصاح عن أيّة معلومة تخصّ هذا المعسكر إلّا مكان وجوده جغرافيّاً، ولكنْ بقيت الظروف المادّيّة للمعتقل، وهويّات الأسرى، وأعدادهم، وأوضاعهم الصحيّة، والمعيشيّة، والقانونيّة معلوماتٍ مجهولةً لأشهر طويلة بسبب رفض سلطات الاحتلال الإفصاح عن أيّة معلومة تخصّ المعسكر أو المعتقلين به.
وبعد أشهر من بداية الحرب بدأت المؤسّسات الحقوقيّة ترصد وتوثّق من خلال الأسرى المحرّرين ظروف الاحتجاز اللاإنسانيّة والقاسية جدّاً التي احتُجزوا فيها، والتي كانت أشبه بِروتين تعذيب مستمرّ، حيث كان الأسرى محتجزين في ساحات كبيرة تشبه الأقفاص، وأرضيّتها زفزاف. احتُجز الأسرى في معسكر "سديه تيمان" مقيدي اليدين والرجلين، ومعصوبي الأعين على مدار الساعة، ومجبرين على الجلوس بوضعيّات معيّنة، مثل: الركوع على الرّكب، وعدم السماح لهم بتعديل وضعيّات الجلوس المؤلمة التي أُجبروا عليها لفترات وصلت إلى 16 ساعة في اليوم.
مع وصول الأسرى إلى معسكر "سديه تيمان" كان يتمّ تجريدهم من اللباس الأبيض -لباس الكورونا- وإعطاؤهم ملابس خفيفة رماديّة اللون، بعدها كان يُنقل بعضهم لإجراء المعاينة الطبّيّة الأوّليّة من خلال عرضهم على مجنّد/ة طبيب/ة الذين بدورهم يوجّهون بعض الأسئلة الطبّيّة العامّة للأسرى، مثل: "هل تعاني من أيّة أمراض مزمنة؟ أو هل تتناول أدوية بشكل منتظم؟"، وتقتصر المعاينة الطبّيّة على هذه الأسئلة دون تقديم أيّ علاج، على الرغم من اعتقال مئات الجرحى من أسرة المستشفيات، إضافة الى مئات المرضى. ولكن لم يتمّ عمل الفحص الطبّيّ الأوّليّ لعدد كبير من المعتقلين، فبناءً على زيارة محامي الأسرى، افاد 28 أسير بأنهم حصلوا على علاج، وذلك بعد فترة طويلة ومطالبات حثيثة أدّت إلى تفاقم وضعهم الصحيّ، ويجب التنوية إلى أنّ جزءاً من الذين خضعوا للفحص الطبّيّ الأوّليّ لم يقوموا به منذ لحظة وصولهم إلى المعسكر، بل بعد أيّام عدّة، مما يخالف القانون الذي ينصّ على وجوب خضوع المعتقلين للفحص الطبّيّ لدى وصولهم منشأة الاحتجاز.
بعد إجراءات المعاينة الأوّليّة ينقلون الأسرى إلى ساحات كبيرة أشبه بالأقفاص، أو (بالبركسات) مكوّنة من أرضيّة زفزاف، تخلو هذه الأقفاص من أدنى مقوّمات الحياة سواء على صعيد الحيّز المكانيّ للمعسكر، أو على صعيد جاهزيّة المعسكر لاستقبال الأسرى، فهي أقفاص خالية تماماً من أيّة أدوات، أو معدّات للاستخدام البشريّ، وتحتوي فقط على فرشات بسمك 1-2سم، وبطّانيّات رقيقة. وأشار الأسرى إلى أنّ هذه البطّانيّات خفيفة جدّاً لا تقي من برد الشتاء، إضافة إلى كونها بطّانيّات قذرة مليئة بالحشرات، هذا ويتم سحبها من الساعة السادسة صباحاً وحتى ساعات المساء، حيث أفاد الأسير المحرّر (م، م) قائلاً: "أعطوا لكلّ أسير بطّانيّة واحدة يوجد عليها حشرات صغيرة، وعندما نتغطّى فيها كانت تصيبنا حكّة قويّة، ويطلعلنا حبوب، ولأنّ (البركس) مفتوح، والبرد قارس لا يوجد لدينا خيار آخر سوى أن نتغطّى بها"24.
ولم تكن الظروف المناخيّة والحيّز المكانيّ مصدر التعذيب الوحيد للمعتقلين في "سدية تيمان"، بل ممارسات جيش الاحتلال ضاعفت من قساوة ظروف الاحتجاز، فانعدام نظافة المعتقل إضافة إلى منع المعتقلين من الاستحمام، ومنعهم من تغيير ملابسهم زاد الوضع سوءاً، حيث أُجبر بعض الأسرى على البقاء بالملابس ذاتها لما يزيد عن 100 يوم، وأفاد الأسير (أ، ن) قائلاً: "أثناء فترة وجودي في المعسكر، بدّلتُ بنطالي بعد 90 يوماً"25 وأكّد الأسير (ي، ز) ذلك قائلاً: "لم يسمحوا لي بتغيير ملابسي إلّا بعد 80 يوماً من الاعتقال"26. وكان يُسمح للأسرى بالاستحمام إمّا مرّة أسبوعيّاً، أو مرّة كلّ أسبوعين لمدّة لا تتعدّى الدقائق، حيث أفاد الأسير (م، س) قائلاً: "نستحمّ مرّتين في الأسبوع لمدّة تقلّ عن 5 دقائق، وكانت إدارة المعتقل يوفّرون صابون صلب"،27 وأكمل الأسير (م، ش) قائلاً: "في بداية الاعتقال كانت المنشفة والصابون لكلّ شخص، أمّا بعدها أصبحوا يعطوا ذات المنشفة والصابون لكلّ 4 أسرى"28.
وبالطبع لم تكن النظافة الشخصيّة للأسرى هي الوحيدة التي عليها قيود صارمة، فالمعسكر ذاته كان قذراً جدّاً، ولا يتمّ تنظيفه، ومع احتجاز الأسرى في بيئة قذرة، ومنعهم من الاستحمام، وتغيير ملابسهم، وفرض عليهم قيود بالاستحمام، وإجبار كلّ مجموعة منهم على استخدام المنشفة نفسها، انتشرت الأمراض الجلديّة المعدية بين صفوف الأسرى، منها: مرض الجرب (السكابيوس) الذي فتك في أجسادهم، كما انتشرت أمراض أخرى، مثل: الفطريات، والدمامل، وغيرها. ولم يتمّ تقديم أيّ علاج للأسرى لفترات طويلة؛ ما جعل هذه الأمراض تنتشر بشكل كبير في المعتقل.
ومنذ اليوم الأوّل الذي شرعت قوّات الاحتلال باستخدام "سديه تيمان" كمنشأةَ اعتقال، بدأت إدارة المعسكر باتّباع سياسة التجويع مع المعتقلين، والتي تُعدّ امتداداً لسياسة ممنهجة، متّبعة في السجون المركزيّة الإسرائيليّة منذ السابع من أكتوبر. اعتمدت إدارة المعسكر على توفير طعام بكميّات قليلة جدّاً تكاد لا تكفي حتّى لإبقاء الأسرى على قيد الحياة، حيث إنّه بالرغم من توفير كمّيّات طعام قليلة، إلّا أنّ الطعام كان فاسداً أحياناً وغير صالح للأكل. كما أنّ الطعام كان يتمّ توفيره مرّة أو مرّتين فقط خلال اليوم. واعتمدت إدارة المعتقل في النظام الغذائيّ الموفّر للأسرى على الطعام الذي يحتوي على كمّيّات عالية جدّاً من السكريّات. وفيما يتعلّق بسياسة التجويع عبّر الأسير (ع، س) عنها قائلاً: "كلّ 24 ساعة يتمّ توفير قطعة خبز واحدة، مع خيارة أو بندورة".29 وأكّد الأسير (أ، ع) قائلاً: "الأكل شرحات خبز ولبن، وشوكولاتة دهن، وخيار أو بندورة"30. ولم يسلم الجرحى، أو كبار السنّ من ظروف الاحتجاز القاسية، بل فُرضت عليهم ذات المعايير بما يخصّ النظام الغذائيّ".
تعدّدت مصادر التعذيب في هذا المعسكر، وسيطر التعذيب الجسديّ والنفسيّ على المشهد طوال أشهر متواصلة، وباشر الجيش باستخدام أسلوب الإهانة والإذلال، والانتقام لكسر الأسرى، فبدأ الجنود بالضرب المبرح، وعقاب الأسرى لأبسط الأسباب، مثل: تعديل أحد الأسرى لوضعيّة الجلوس، أو تحريك عصبة العين، وأحياناً كان يتمّ اختيار أحد الأسرى عشوائيّاً، والاعتداء عليه بالضرب المبرح، أو على القسم بأكمله كنوع من العقاب الجماعيّ، وترهيب الأسرى، كما وتم استحداث غرفة لعزل الاسرى انفرادياً، فبحسب شهادة أحد الأسرى: "كنت بتوضى اجت الضابطة قالت كله يوقف، طلعت من المكان الي كنت اتوضى فيه، فقالت روح اقعد عند الباب على أساس ممنوع ندخل حمام حين يدخلون، لازم نقف، وتم عقابي 5 أيام انفرادي، غرفة صغيرة خلف البراكس، 2م* 1.5م، فيها فرشة وبطانية أو 2، ما فيها حمام، ولم يعطوني صابون أو مي أغسل يدي"31.
وبرزت من خلال شهادات الأسرى التي تمّ جمعها من خلال زيارات المحامين لأسرى غزّة استخدام أساليب، منها: الشبح على جدار المعسكر لساعات طويلة، أو اعتداءات الكلاب، أو استخدام الصاعق الكهربائيّ، والجرائم الجنسيّة، وغرفة الديسكو، وغيرها العديد من الأساليب. ومن قبيل التعذيب النفسيّ والإهانة إجبار الجنود الأسرى على شتم أنفسهم، والغناء باللغة العبريّة، وحتّى تصويرهم مع العلم الإسرائيليّ، أو جعلهم ينبطحون أرضاً على بطونهم وهم مقيّدو الأيدي للخلف أثناء مرور أحد السجّانين، فأفاد أحد الأسرى: "مرة واحد حاول التكلم مع جاره، فأخذوه إلى الشبك وأجبروه على رفع يديه، ونام طوال الليل بالبرد وكانت برد شديد"32، ويفيد آخر: "كان هناك ضرب، وكانوا يجبرونا على الجلوس على الركب وكانوا يضربوننا بالرجلين ويقف الجندي فوق ظهورنا، ومن كان يتحرك او يتكلم كان يُعلق على السياج (شبح على السياج) حوالي 6 ساعات"33.
للإطلاع على الورقة كاملة: مرفق PDF